فصل: تفسير الآيات (44- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (21- 43):

{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}
{فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} نادى بعضهم بعضاً عند الصباح {أَنِ اغدوا} باكروا {على حَرْثِكُمْ} ولم يقل (إلى حرثكم) لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين {إِن كُنتُمْ صارمين} مريدين صرامه {فانطلقوا} ذهبوا {وَهُمْ يتخافتون} يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أي الجنة و(إن) مفسرة وقرئ بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها {اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ} والنهي عن دخول المساكين. نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول.
{وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ} على جد في المنع {قادرين} عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا} أي جنتهم محترقة {قَالُواْ} في بديهة وصولهم {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وخيرهم {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ} هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم. أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم! كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا {قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون} يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر.
ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله {قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين} بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء {عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا} وبالتشديد: مدني وأبو عمرو {خَيْراً مّنْهَا} من هذه الجنة {إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون} طالبون منه الخير راجون لعفوه. عن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيراً منها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً {كَذَلِكَ العذاب} أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ} أعظم منه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب.
ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال:
{إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ} عن الشرك {عِندَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة {جنات النعيم} جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا. فقيل لهم: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم {أَمْ لَكُمْ كتاب} من السماء {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون في ذلك الكتاب {إنّ لكم فيه لما تخيّرون} أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم. والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح (أن) لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخرين * سلام على نُوحٍ} [الصافات: 78-79]. وتخير الشيء واختاره أخذ خيره {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} عهود مؤكدة بالأيمان {بالغة} نعت {أيمان} ويتعلق {إلى يَوْمِ القيامة} ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.
{سَلْهُمْ} أي المشركين {أَيُّهُم بذلك} الحكم {زَعِيمٌ} كفيل بأنه يكون ذلك {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين} في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد به عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ناصب الظرف {فَلْيَأْتُواْ} أو (اذكر) مضمراً. والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب، فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وهذا كما نقول: للأقطع الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمة ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده {وَيُدْعَوْنَ} أي الكفار ثمة {إِلَى السجود} لا تكليف ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع {خاشعة} ذليلة حال من الضمير في {يُدْعَونَ} {أبصارهم} أي يدعون في حال خشوع أبصارهم {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يغشاهم صغار {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ} على ألسن الرسل {إِلَى السجود} في الدنيا {وَهُمْ سالمون} أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ.

.تفسير الآيات (44- 52):

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}
{فَذَرْنِى}. يقال: ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه {وَمَن يُكَذِّبُ} معطوف على المفعول أو مفعول معه {بهذا الحديث} بالقرآن، والمراد كل أمره إليَّ وخل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به، مطيق له، ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمكذبين {سَنَسْتَدْرِجُهُم} سندنيهم من العذاب درجة درجة. يقال: استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازياد المعاصي {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج. قيل: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. قال عليه السلام: «إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية» {وَأُمْلِى لَهُمْ} وأمهلهم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك. والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً.
{أَمْ تَسْئَلُهُمْ} على تبليغ الرسالة {أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ} غرامة {مُّثْقَلُونَ} فلا يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوح المحفوظ عند الجمهور {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يحكمون به {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه. والوقف على الحوت لأن (إذ) ليس بظرف لما تقدمه، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر {إِذْ نادى} دعا ربه في بطن الحوت ب {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ} رحمة {مّن رَّبِّهِ} أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره {لَنُبِذَ} من بطن الحوت {بالعرآء} بالفضاء {وَهُوَ مَذْمُومٌ} معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم {فاجتباه رَبُّهُ} اصطفاه لدعائه وعذره {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة. وقيل: من الأنبياء. وقيل: من المرسلين. والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله لقوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون}
[الصافات: 139-140]. الآيات.
{وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} وبفتح الياء: مدني. (إن) مخففة من الثقيلة واللام علمها. زلقة وأزلقة أزاله عن مكانه أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك، أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك. وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا هلك. فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال: لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك. وفي الحديث: «العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» وعن الحسن: رقية العين هذه الآية: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} القرآن {وَيَقُولُونَ} حسداً على ما أوتيت من النبوة {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه {وَمَا هُوَ} أي القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} وعظ {للعالمين} للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين، فكيف يجنن من جاء بمثله؟ وقيل: لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه السلام وما هو أي محمد عليه السلام إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون؟ والله أعلم.

.سورة الحاقة:

.تفسير الآيات (1- 23):

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)}
{الحاقة} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، من حق يحق بالكسر أي وجب {مَا الحاقة} مبتدأ وخبر وهما خبر {الحاقة} والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل {وَمَا أَدْرَاكَ} وأي شيء أعلمك {مَا الحاقة} يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين. و(ما) رفع بالابتداء و{أَدْرَاكَ} الخبر، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ ل (أدرى) {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال. ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة. واختلف فيها فقيل الرجفة، وقيل الصيحة، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم، ولكن هذا لا يطابق قوله {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ} أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {صَرْصَرٍ} شديدة الصوت من الصرة الصيحة، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها {عَاتِيَةٍ} شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضباً على أعداء الله {سَخَّرَهَا} سلطها {عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ} وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى {حُسُوماً} أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم، وجاز أن يكون مصدراً أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً {فَتَرَى} أيها المخاطب {القوم فِيهَا} في مهابها أو في الليالي والأيام {صرعى} حال جمع صريع {كَأَنَّهُمْ} حال أخرى {أَعْجَازُ} أصول {نَخْلٍ} جمع نخلة {خَاوِيَةٍ} ساقطة أو بالية {فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.
{وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} ومن تقدمه من الأمم {وَمِن قَبْلِهِ} بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه {والمؤتفكات} قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم {فَعَصَوْاْ} أي قوم لوط {رَسُولَ رَبّهِمْ} لوطاً {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء} ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً {حملناكم} أي آباءكم {فِى الجارية} في سفينة نوح عليه السلام {لِنَجْعَلَهَا} أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرة وعظة {وَتَعِيَهَا} وتحفظها {أُذُنٌ} بضم الذال: غير نافع {واعية} حافظة لما تسمع.
قال قتادة: وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت.
{فَإِذَا نُفِخَ في الصور نَفْخَةٌ واحدة} هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس، والثانية يبعثون عندها {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} رفعتا عن موضعهما {فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً {فَيَوْمَئِذٍ} فحينئذ {وَقَعَتِ الواقعة} نزلت النازلة وهي القيامة، وجواب (إذا) {وَقَعَتِ} و{يَوْمَئِذٍ} بدل من (إذا) {وانشقت السماء} فتّحت أبواباً {فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة {والملك} للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة {على أَرْجَائِهَا} جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ} فوق الملك الذين على أرجائها {يَوْمَئِذٍ ثمانية} منهم، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة. وعن الضحاك: ثمانية صفوف. وقيل: ثمانية أصناف.
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} للحساب، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا. وبالياء: كوفي غير عاصم. وفي الحديث: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله» {فَأَمَّا} تفصيل للعرض {مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} سروراً به لما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته {هَاؤُمُ} اسم للفعل أي خذوا {اقرؤا كتابيه} تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، والعامل في {كتابيه} {اقرءوا} عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب. والهاء في {كتابيه} و{حِسَابِيَهْ} و{مَالِيَهْ} و{سلطانيه} للسكت، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف {إِنّى ظَنَنتُ} علمت. وإنما أجرى الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه {أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} معاين حسابي {فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكئ يقال لهم: